الجانب المُشرق
الجانب المُشرق

حقائق حول حضارة قديمة على ضفاف السند لا يعرفها إلا قلة من الناس

على ضفاف نهر السند، ازدهرت حضارة مثيرة للدهشة ما بين عامي 3300 و1300 قبل الميلاد، تحمل اسم حضارة هارابان. وما زال المؤرخون يتجادلون حول سبب اندثار هذه الحضارة المتقدمة، التي كانت مهداً للعديد من تقنيات التعدين والزراعة والبناء الأساسية. وكانت ذروة ازدهارها قصيرة نسبياً، إذ سرعان ما أمست مدنها التي كانت مكتظة بالسكان مدفونة تحت رمال الزمن.

قررنا اليوم في الجانب المُشرق استكشاف أسباب نجاح هؤلاء المبدعين القدامى من بلاد الهارابان، في تشييد حياة بمواصفات لا توجد حتى في بعض المجتمعات المعاصرة.

كان لكل منزل مرحاضه الخاص

كانت سكان حضارة هارابان Harappan أول من ابتكروا نظام صرف صحي في العالم. فقبل 4000 عام، كانت جميع المباني في المدينة تقريباً موصولة بشبكة واحدة من “الأنابيب” تنقل من خلالها النفايات السائلة إلى مستنقع بعيد، يتم تفريغه وتنظيفه بشكل دوري.
وكان في كل منزل مرحاض خاص، وكانت القنوات الناقلة مصنوعة من الطوب المصنوع بعناية خاصة، لمنع تسرب السوائل إلى الداخل أو الخارج. تم تثبيت نظام الأنابيب بزاوية انحناء معينة، تسمح للنفايات بالوصول بسرعة إلى الخزان الرئيسي خارج المدينة، كما تم الحرص على حماية القنوات من مرور النفايات الصلبة، بشباك خاصة. كما كان السكان أنفسهم يتخلصون من النفايات الصلبة في حوض خاص، حتى لا تسد المجاري.
بالطبع، كان هذا النظام يتطلب التنظيف باستمرار، وكان رجال من اللجان البلدية الخاصة، وليس العبيد أو الخدم، هم من يفعلون ذلك. لقد كان نظام الصرف الصحي للهارابانيين على العموم، بالنظر إلى ظروف العالم في ذلك الزمن، يفوق العديد من الأمثلة الشبيهة حتى في بعض المدن اليوم.

أصل بعض التمائم التي تحظى اليوم بشعبية كبيرة بين الناس

يمكن رؤية (النازار) أو تميمة العين الزرقاء على رفوف العديد من المتاجر اليوم، في تركيا واليونان ودول أخرى. وغالباً ما يتم تعليقها على أبواب المنزل وفي السيارات وعلى سلاسل المفاتيح الخاصة، وهناك من يؤمن فعلاً أنها مصممة لحماية أصحابها من العين والشر والحسد.
من المرجح أن هذا “التقليد” انتشر في العالم انطلاقاً من حضارة هارابان. إذ توجد صور عين مستديرة مع بؤبؤ في المنتصف منقوشة على الأصداف والخرز المؤرخة من تلك الحقبة، ويمكن رؤيتها أيضاً على رأس تمثال “الملك الكاهن” الشهير.

يتم الزواج وفق مقاربة وطقوس في غاية الجدية

يمكن العثور على الكثير من أوجه التشابه بين العلاقات العائلية ومراسيم الزواج التي سادت في تلك الحضارة، وبعض التقاليد الموجودة في بلاد الهند في الوقت الحاضر. قبل الزواج، كان الرجل يعلق قلادة خاصة نحت عليها شكل حيوان حول عنق زوجته المستقبلية. ويمكن رؤية نفس الحيوانات على المطبوعات التي تم استخدامها لتمييز البضائع التجارية، حيث تملك كل عائلة نبيلة صورة حيوان معين، تساعد على تمييز العشائر عن بعضها البعض.
كما كان التجار يجلبون لأنفسهم زوجات من بلذان بعيدة، من أجل ضمان الإمداد المستمر للسلع من الشعوب التي يقايضون معها منوجاتهم. وكانت النساء تحظين باحترام كبير بعد الزواج، كما أتثبت ذلك الآثار القديمة التي عُثر عليها في أراضي تلك المناطق.

بعض المدن الحديثة أدنى رفاهية من مستوطنات حضارة هارابان

تم بناء المستوطنات في تلك الحضارة وفق مخطط هندسي صارم. أما نظام الإدارة فكان يعمل بشكل مثالي في المدن، حيث كانت اللجان البلدية تتعامل مع مشكل مياه الصرف الصحي والنفايات الصلبة. وتحرص على هندسة عرض الأزقة والشوارع وحجم الواجهات والمتاجر بشكل صارم، وكان السكان في كافة المدن يحترمون القواعد والقوانين بالحرف، مدركين أن كل بناء إضافي غير قانوني في منطقة قريبة من الشارع شبه مستحيل.
وفي فترة زمنية معينة، افتقرت الدولة لزعيم رئيسي يحكمها، رغم وجود منظومة قانونية موحدة. ولم يكن هناك تمييز صارم بين الفقراء والأغنياء: فجميع المواطنين يتمتعون بفرص متساوية في الحقوق والواجبات.

كان كل شخص يقوم بمهمة محددة له

هناك تقسيم واضح للمناطق السكنية داخل المستوطنات: فقد كان الناس الذين يشتغلون في بعض الحرف اليدوية، يعيشون مع بعضهم في مناطق محددة. وكان السكان ملمين بأساسيات التعدين، حيث تم تطبيق تقنيات الصهر والصب، ونحت العقيق، وحتى معالجة العظام.
كان هناك حرفيون مهرة في صهر البرونز والنحاس والرصاص والقصدير، وآخرون يبرعون في صناعة الفخار والعمل بورشات المجوهرات وحتى مصانع الخرز. وقد اشتهرت حضارة هارابان بتماثيلها الكبيرة التي يصعب تصديق أنها صنعت على أيدي أناس عاشوا قبل أكثر من 4000 عام. وعلاوة على ذلك، يبدو أنه كان هناك أيضاً أطباء أسنان في ذلك الزمن، حيث اكتشف العلماء آثاراً لعلاج الأسنان في بعض الجماجم.

لم يحاربوا جيرانهم بل انشغلوا بمواجهة الأخطار الطبيعية

يبدو أن هارابان لم تكن حضارة حرب. فعلى الرغم من أن المدن كانت محاطة بأسوار عالية للحماية، إلا أن الأعداء الرئيسيين لهؤلاء القوم لم يكونوا جيرانهم أو الغزاة من البشر، ولكن من عمق الطبيعة. إذ كان الغرض الأساسي من الأسوار حماية السكان من الفيضانات، وقد تم تشييد جميع المباني بالطوب على منصات مرتفعة.
تبادلت حضارة هارابان تجارة نشطة مع جيرانها، فتم نقل البضائع في عربات خاصة تجرها الثيران. ولا تزال طريقة النقل هذه مستخدمة في بعض المناطق هناك اليوم. أما بالنسبة للتجارة البعيدة، فكانت البضائع تنقل عن طريق السفن إلى ممالك أخرى مثل بلاد ما بين النهرين ومصر وجزيرة كريت. كما كان السكان يشتغلون بتقنيات جديدة لزراعة الحبوب، مكنتهم من حصاد المحاصيل مرتين في السنة بالتناوب بين الزراعات المختلفة، وذلك بغية تجنب المجاعات المحتملة.

كان لكل شخص منزله الخاص

تم إنشاء المدن في هذه الأماكن وفق مخططات هندسية صارمة (الصورة على اليمين).
أنقاض المباني التي بقيت شاهدة على قوة هذه الحضارة حتى اليوم (الصورة على اليسار).

كانت المنازل السكنية تشيد بالطوب المحروق، مع تخصيص أماكن مزودة بمداخن لتحضير الطعام في الأفنية. كانت الأسقف مسطحة في أغلب الحالات، وتصلح حتى للنوم فوقها وتناول وجبات العشاء في الطقس الحار. وبصرف النظر عن المنازل الخاصة، كانت هناك مبانٍ بلدية ومتاجر ومصانع ومستودعات ومعابد في كل المدن، بل وهناك آثار تشير إلى بنايات يمكن اعتبارها أول تجمعات للمكاتب في العالم.
في هذه المنطقة، يحدث تناوب بين موسم الأمطار وموسم الجفاف الذي يستمر أحياناً لعدة شهور، ولهذا السبب كان لكل شخص بئر مياه خاص به في فناء منزله الخلفي.

كانت لديهم حمامات لكنها ليست فخمة

لا يحتوي كل منزل على مرحاض فحسب، بل يحتوي أيضاً على حمام. تقع هذه الغرفة عادة بجوار المرحاض قريباً من الجدار الخارجي للمنزل. وإلى جانب هذه الحمامات الخاصة، كانت هناك أيضاً حمامات عامة في المستوطنات وجد المؤرخون صعوبة في شرح سبب بنائها: فقيل إنها للغسيل الجماعي أو لنوع من الطقوس. وعادة ما كان يتم تبطين الجدران الأرضيات بالطوب وتغطيتها بالقار، لتجنب التسربات المائية.

كانت لعب الأطفال المجسمة منتشرة في تلك الحقبة

كان الرجال في العادة يشتغلون بالحرف اليدوية، بينما كانت الأعمال المنزلية واجبات نسائية صرفة. ومع ذلك، حظيت الهاربانيات باحترام كبير وكن يتمتعن بنفس الحقوق التي يتمتع بها الرجال تقريباً. وكان الأطفال يتعلمون في تجمعات مدرسية ويساعدون والديهم في مختلف الأشغال اليومية، لكن بعض تحف اللعب القديمة التي وجدها علماء الآثار، تشير إلى أن الأطفال كان لديهم أيضاً بعض الوقت للترفيه.

وما زلنا نستخدم بعض أسرار التجميل من حضارة هارابان

من الصعب تحديد الملابس التي كان يرتديها الناس في مجتمعات هارابان. تصور معظم التماثيل رجال ونساء بقطع ثياب قليلة فقط. ومن المعروف أنهم كانوا ملمين بطرق معالجة الكتان والقطن. أما الصوف فكان يتم شراؤه من السومريين القدماء، وكان النسيج يصبغ باستخدام مواد طبيعية مثل الكركم.
كان التزين بالمجوهرات والحلي أمراً شائعاً بالنسبة للرجال والنساء على حد سواء، وكانوا يرتدون القلائد والخواتم والأساور. صففت النساء شعرهن في تسريحات متقنة بمساعدة دبابيس منحوتة من العظام، ومن أجل العناية بجمالهن، كن يستخدمن أمشاطاً وأدوات ومواد خاصة من الكاكاي، يمكن اليوم العثور على مثيل لها في مستحضرات التجميل لدى النساء الهنديات. وقد كشفت الحفريات على جرار كانت تستخدم لتخزين مستحضرات التجميل المختلفة.

أين اختفت حضارة هارابان؟

لا توجد إجابة دقيقة لهذا السؤال توضح سبب اندثار حضارة هارابان. ولكن بعض الباحثين يلقون باللوم على قبائل آرية زحفت على هذه الأراضي، رغم أنه لم يتم العثور على أي آثار لمعارك مدمرة أثناء الحفريات.
وهناك من اقترح أن سبب أفول هذه الحضارة يرجع إلى التغير المناخي، حيث عانت بعض المدن من الجفاف، بينما دمرت أخرى بسبب الفيضانات. ولأن مسارات الأنهار ومجاريها تغيرت مع الزمن، فقد أدى هذا إلى انقطاع العلاقات التجارية مع مصر وبلاد ما بين النهرين. وبدأ الناس يغادرون المدن الكبرى حتى أصبحت المستوطنات فارغة في نهاية المطاف.
يرجح أن أغلب السكان انتقلوا باتجاه الشرق، وقد استغرق البحث عن آثار لأشخاص ينحدرون من أصول تمتد إلى هذه الحضارة وقتاً طويلاً، لكن النتائج الأخيرة للفحوصات الجينية تشير إلى أن سكان جنوب آسيا قد يكونون من أحفاد بني هارابان.

لم تكن تعرف أي شيء عن هذه الحضارة من قبل، أليس كذلك؟ هل سمعت عن حضارات أخرى مغمورة اندثرت ونسينا أمرها؟ أخبرنا عنها في قسم التعليقات أدناه.

مصدر صورة المعاينة Biswarup Ganguly / Wikimedia Commons, CC-BY-3.0
الجانب المُشرق/مثير للفضول/حقائق حول حضارة قديمة على ضفاف السند لا يعرفها إلا قلة من الناس
شارك هذا المقال